فصل: فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: العناية شرح الهداية



.(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ):

(إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ جَعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةٌ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةٌ خَلْفَهُ، فَيُصَلِّي بِهَذِهِ الطَّائِفَةِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ مَضَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْإِمَامُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَتَشَهَّدَ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَلِّمُوا، وَذَهَبُوا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى فَصَلُّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وُحْدَانًا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا وَمَضَوْا إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتْ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى، وَصَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ بِقِرَاءَةٍ)؛ لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ (وَتَشَهَّدُوا وَسَلَّمُوا) وَالْأَصْلُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا».
وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَانِنَا فَهُوَ مَحْجُوجٌ عَلَيْهِ بِمَا رَوَيْنَا.
الشَّرْحُ:
(بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ): وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ شَرْعِيَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا لِعَارِضِ خَوْفٍ، وَقَدَّمَ الِاسْتِسْقَاءَ لِأَنَّ الْعَارِضَ ثَمَّةَ انْقِطَاعُ الْمَطَرِ وَهُوَ سَمَاوِيٌّ وَهَاهُنَا اخْتِيَارِيٌّ وَهُوَ الْجِهَادُ الَّذِي سَبَبُهُ كُفْرُ الْكَافِرِ، وَصُورَةُ صَلَاةِ الْخَوْفِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ) لَيْسَ اشْتِدَادُ الْخَوْفِ شَرْطًا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا.
قَالَ فِي التُّحْفَةِ: سَبَبُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ نَفْسُ قُرْبِ الْعَدُوِّ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْخَوْفِ وَالِاشْتِدَادِ.
وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ: الْمُرَادُ بِالْخَوْفِ عِنْدَ الْبَعْضِ حَضْرَةُ الْعَدُوِّ لَا حَقِيقَةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ حَضْرَةَ الْعَدُوِّ أُقِيمَ مَقَامَ الْخَوْفِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا فِي تَعْلِيقِ الرُّخْصَةِ بِنَفْسِ السَّفَرِ لَا حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ لِأَنَّ السَّفَرَ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فَأُقِيمَ مَقَامَهَا، فَكَذَا حَضْرَةُ الْعَدُوِّ هَاهُنَا سَبَبُ الْخَوْفِ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْخَوْفِ.
قِيلَ صَلَاةُ الْخَوْفِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا إذَا تَنَازَعَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَحْنُ نُصَلِّي مَعَك، وَأَمَّا إذَا تَنَازَعُوا فَالْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ تَمَّامَ الصَّلَاةِ وَيُرْسِلَهُمْ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَيَأْمُرَ رَجُلًا مِنْ الطَّائِفَةِ الَّتِي كَانَتْ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ تَمَامَ صَلَاتِهِمْ أَيْضًا وَتَقُومَ الَّتِي صَلَّتْ مَعَ الْإِمَامِ بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ.
وَقَوْلُهُ (وَأَبُو يُوسُفَ وَإِنْ أَنْكَرَ شَرْعِيَّتَهَا) أَيْ كَوْنَهَا مَشْرُوعَةً، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا مِثْلَمَا قَالَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: كَانَتْ مَشْرُوعَةً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْت فِيهِمْ} الْآيَةَ، لِيَنَالَ كُلُّ طَائِفَةٍ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِإِمَامٍ عَلَى حِدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِصِفَةِ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ.
وَقَوْلُهُ (بِمَا رَوَيْنَا) يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ.
وَالْأَصْلُ فِيهِ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي قُلْنَا.
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ التَّحْقِيقِ، لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَمْ يُنْكِرْ شَرْعِيَّتَهَا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَكَيْفَ تَكُونُ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُجَّةً عَلَى أَبِي يُوسُفَ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ لَا مِنْ حَيْثُ الْعِبَارَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْخَوْفُ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّ تَرْكَ الْمَشْيِ وَالِاسْتِدْبَارِ فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَالصَّلَاةَ خَلْفَهُ فَضِيلَةٌ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْفَرْضِ لِإِحْرَازِ الْفَضِيلَةِ، وَالْخِطَابُ لِلرَّسُولِ قَدْ لَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ إلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ وَهُوَ فِعْلُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَقَامُوا صَلَاةَ الْخَوْفِ بِأَصْفَهَانَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ حَارَبَ الْمَجُوسَ بِطَبَرِسْتَانَ وَمَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَصَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ قَالَ (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا صَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى الظُّهْرَ بِالطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» (وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَاحِدَةً) لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَجَعَلَهَا فِي الْأُولَى أَوْلَى بِحُكْمِ السَّبْقِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ) مَذْهَبُنَا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفَةٍ فِي ذَلِكَ حَظٌّ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ تَنْصِيفَ الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُصَلِّي بِكُلِّ طَائِفَةٍ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَشَطْرُ الْمَغْرِبِ رَكْعَةٌ وَنِصْفٌ فَيَكُونُ حَقُّ الطَّائِفَةِ الْأُولَى نِصْفَ رَكْعَةٍ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَثَبَتَ فِي كُلِّهَا بِحُكْمِ السَّبْقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِنَا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِثْلَ مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ (وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ فَعَلُوا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ)؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا.
الشَّرْحُ:
(وَلَا يُقَاتِلُونَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَفْسُدُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ السِّلَاحِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْقِتَالِ بِهِ، وَلَنَا مَا ذَكَرَهُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْأَحْزَابِ» فَلَوْ جَازَ الْأَدَاءُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا تَرَكَهَا، وَالْأَمْرُ بِأَخْذِ الْأَسْلِحَةِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ الْعَدُوُّ فِيهِمْ إذَا رَآهُمْ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ أَوْ لِيُقَاتِلُوا بِهَا إذَا احْتَاجُوا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُوا الصَّلَاةَ. (فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا فُرَادَى يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءُوا إذَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} وَسَقَطَ التَّوَجُّهُ لِلضَّرُورَةِ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ الْمُصَلُّونَ بِجَمَاعَةٍ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِانْعِدَامِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَكَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ) بِأَنْ لَا يَدَعَهُمْ الْعَدُوُّ أَنْ يُصَلُّوا نَازِلِينَ بَلْ يَهْجُمُونَهُمْ بِالْمُحَارَبَةِ (صَلَّوْا رُكْبَانًا إلَخْ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اشْتِدَادَ الْخَوْفِ شَرْطُ جَوَازِ الصَّلَاةِ رُكْبَانًا وَفُرَادَى مُومِئِينَ لَا شَرْطُ جَوَازِ صَلَاةِ الْخَوْفِ حَتَّى لَوْ رَكِبَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِاشْتِدَادِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، بِخِلَافِ الْمَشْيِ وَالذَّهَابِ فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ لِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ وَإِنْ كَانَ عَمَلًا كَثِيرًا.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمَاعَةً اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ لِنَيْلِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَكَانِ شَرْطُ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَالْخَوْفُ مِنْ سَبُعٍ يُعَايِنُونَهُ كَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِدَفْعِ سَبَبِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ السَّبُعِ وَالْعَدُوِّ.

.(بَابُ الْجَنَائِزِ):

(إذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ وُجِّهَ إلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَارُ فِي بِلَادِنَا الِاسْتِلْقَاءُ؛ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ وَالْأَوَّلُ هُوَ السُّنَّةُ (وَلُقِّنَ الشَّهَادَتَيْنِ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ (فَإِذَا مَاتَ شُدَّ لَحْيَاهُ وَغُمِّضَ عَيْنَاهُ) بِذَلِكَ جَرَى التَّوَارُثُ، ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ فَيُسْتَحْسَنُ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الْجَنَائِزِ) الْجَنَائِزُ جَمْعُ جِنَازَةٍ، وَالْجِنَازَةُ بِالْكَسْرِ السَّرِيرُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَيِّتُ.
وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ.
وَعَنْ الْأَصْمَعِيِّ لَا يُقَالُ بِالْفَتْحِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ آخِرَ الْعَوَارِضِ ذَكَرَ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ آخِرًا لِلْمُنَاسَبَةِ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَذْكُرَ الصَّلَاةَ فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَهَا، وَلَكِنْ أَخَّرَهَا لِيَكُونَ خَتْمُ كِتَابِ الصَّلَاةِ بِمَا يُتَبَرَّكُ بِهَا حَالًا وَمَكَانًا (إذَا اُحْتُضِرَ الرَّجُلُ) أَيْ قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ، وَقَدْ يُقَالُ اُحْتُضِرَ إذَا مَاتَ لِأَنَّ الْوَفَاةَ حَضَرَتْهُ أَوْ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَى شِقِّهِ) أَيْ جَنْبِهِ (الْأَيْمَنِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ) فَإِنَّهُ يُوضَعُ فِيهِ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ، وَالشَّيْءُ إذَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ يَأْخُذُ حُكْمَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلُقِّنَ الشَّهَادَةَ) تَلْقِينُهَا أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ، وَلَا يُقَالُ لَهُ قُلْ لِأَنَّ الْحَالَ صَعْبٌ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ عَنْ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ الَّذِي قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ) دَفْعٌ لِوَهْمِ مَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قِرَاءَةُ التَّلْقِينِ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضٌ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ {إنَّك مَيِّتٌ} وَ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَقَوْلُهُ (ثُمَّ فِيهِ تَحْسِينُهُ) لِأَنَّهُ إذَا تُرِكَ مَفْتُوحَ الْعَيْنِ يَصِيرُ كَرِيهَ الْمَنْظَرِ وَيَقْبُحُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ.

.فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ:

فِي فُصُولٍ:

.(فَصْلٌ فِي الْغُسْلِ):

(وَإِذَا أَرَادُوا غُسْلَهُ وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ) لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ (وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً) إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ، وَيَكْتَفِي بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ هُوَ الصَّحِيحُ تَيْسِيرًا (وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ) لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ: فِي فُصُولٍ وَقَدَّمَ الْغُسْلَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَا يُصْنَعُ بِهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وُجُوبِ الْغُسْلِ، فَقِيلَ إنَّمَا وَجَبَ لِحَدَثٍ يَحُلُّ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ لَا لِنَجَاسَةٍ تَحُلُّ بِهِ، فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ كَرَامَةً، إذْ لَوْ تَنَجَّسَ لَمَا طَهُرَ بِالْغُسْلِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَكَانَ الْوَاجِبُ الِاقْتِصَارَ فِي الْغُسْلِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ، وَالْحَدَثُ بِسَبَبِ الْمَوْتِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ كَالْجَنَابَةِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ لِعَدَمِ الْحَرَجِ فَكَذَا هَذَا.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: وَجَبَ غُسْلُهُ لِنَجَاسَةِ الْمَوْتِ لَا بِسَبَبِ الْحَدَثِ، لِأَنَّ لِلْآدَمِيِّ دَمًا سَائِلًا كَالْحَيَوَانَاتِ الْبَاقِيَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا مَاتَ فِي الْبِئْرِ نَجَّسَهَا، وَلَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَجَازَتْ كَمَا لَوْ حَمَلَ مُحْدِثًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَزُولَ نَجَاسَتُهُ بِالْغُسْلِ كَرَامَةً.
قَوْلُهُ (وَإِذَا أَرَادُوا غَسْلَهُ وَضَعُوهُ عَلَى سَرِيرٍ لِيَنْصَبَّ الْمَاءُ عَنْهُ) أَيْ عَنْ الْمَيِّتِ.
قَوْلُهُ لِيَنْصَبَّ عِلَّةُ الْوَضْعِ عَلَى السَّرِيرِ، فَإِنَّهُ لَوْ وُضِعَ عَلَى الْأَرْضِ تَلَطَّخَ بِالطِّينِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ وَضْعِ التَّخْتِ إلَى الْقِبْلَةِ طُولًا وَعَرْضًا وَلَا كَيْفِيَّةَ وَضْعِ الْمَيِّتِ عَلَى التَّخْتِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ اخْتَارَ الْوَضْعَ طُولًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي مَرَضِهِ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ بِالْإِيمَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اخْتَارَهُ عَرْضًا كَمَا يُوضَعُ فِي الْقَبْرِ.
قَالَ: شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوضَعُ كَيْفَ اُتُّفِقَ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْمَوَاضِعِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةٌ، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ أَنْ يُوضَعَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ (وَجَعَلُوا عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةً إقَامَةً لِوَاجِبِ السَّتْرِ) فَإِنَّ الْآدَمِيَّ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَمَيِّتًا فَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ كَذَلِكَ (وَيُكْتَفَى بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ) بِأَنْ تُسْتَرَ السَّوْأَةُ وَيُتْرَكَ فَخِذَاهُ مَكْشُوفَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ تَيْسِيرًا لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْإِزَارِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَيُوضَعُ عَلَى عَوْرَتِهِ خِرْقَةٌ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ (وَنَزَعُوا ثِيَابَهُ لِيُمْكِنَهُمْ التَّنْظِيفُ) وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْغُسْلِ هُوَ التَّطْهِيرُ، وَالتَّطْهِيرُ لَا يَحْصُلُ إذَا غُسِلَ مَعَ ثِيَابِهِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ مَتَى تَنَجَّسَ بِالْغُسَالَةِ تَنَجَّسَ بِهِ بَدَنُهُ ثَانِيًا بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ فَلَا يُفِيدُ الْغُسْلُ فَيَجِبُ التَّجْرِيدُ.
وَفِيهِ نَفْيٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُغْسَلَ فِي قَمِيصٍ وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ حَتَّى يُدْخِلَ الْغَاسِلُ يَدَهُ فِي الْكُمَّيْنِ وَيَغْسِلَ بَدَنَهُ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا خَرَقَ الْكُمَّيْنِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ»، وَمَا كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ سُنَّةً فِي حَقِّ أُمَّتِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ.
وَقُلْنَا قَدْ قَامَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اجْتَمَعَتْ الصَّحَابَةُ لِغُسْلِهِ، فَقَالُوا لَا نَدْرِي كَيْفَ نَغْسِلُهُ، نَغْسِلُهُ كَمَا نَغْسِلُ مَوْتَانَا أَوْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ النَّوْمَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا نَامَ وَذَقَنُهُ عَلَى صَدْرِهِ إذْ نَادَاهُمْ مُنَادٍ: أَنْ غَسِّلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ» فَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي سَائِرِ الْمَوْتَى التَّجْرِيدُ، وَقَدْ خُصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ بِالنَّصِّ لِعِظَمِ حُرْمَتِهِ (وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ)؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ، غَيْرَ أَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُتْرَكَانِ (ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ) اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ.
الشَّرْحُ:
(وَوُضُوءُهُ مِنْ غَيْرِ مَضْمَضَةٍ وَلَا اسْتِنْشَاقٍ) أَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّهُ سُنَّةُ الِاغْتِسَالِ، وَأَمَّا تَرْكُهُمَا فَلِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَاءِ مِنْ فَمِهِ مُتَعَذِّرٌ فَيَكُونُ سَقْيًا لَا مَضْمَضَةً، وَلَوْ كَبُّوهُ عَلَى وَجْهِهِ لَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُمَضْمَضُ وَيُسْتَنْشَقُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْحَيَاةِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَيِّتُ يُوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ وَلَا يُمَضْمَضُ وَلَا يُسْتَنْشَقُ» وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يُسْتَنْجَى أَوَّلًا.
وَذَكَرَ فِي صَلَاةِ الْأَثَرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُسْتَنْجَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يُسْتَنْجَى لِأَنَّ الْمَسْكَةَ تَزُولُ بِالْمَوْتِ وَالْمَفَاصِلُ تَسْتَرْخِي، فَرُبَّمَا يُزَادُ الِاسْتِرْخَاءُ بِالِاسْتِنْجَاءِ فَتَخْرُجُ نَجَاسَةٌ مِنْ بَاطِنِهِ فَلَا يُفِيدُ الِاسْتِنْجَاءُ فَائِدَتَهُ.
وَلَهُمَا أَنَّ مَوْضِعَ اسْتِنْجَاءِ الْمَيِّتِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ حَقِيقِيَّةً فَيَجِبُ إزَالَتُهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْبَدَنِ، ثُمَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَفْعَالِ مِنْ تَقْدِيمِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ إلَى الرُّسْغِ وَالْمَسْحِ عَلَى الرَّأْسِ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفِي صَلَاةِ الْأَثَرِ لَا يَبْدَأُ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ بَلْ يَغْسِلُ الْوَجْهَ وَلَا يَمْسَحُ عَلَى الرَّأْسِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ) يَعْنِي ثَلَاثًا، وَإِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ. (وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ وِتْرًا) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا يُوتَرُ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ».
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَيُجَمَّرُ سَرِيرُهُ) أَيْ يُبَخَّرُ.
يَعْنِي يُدَارُ الْمُجْمِرُ وَهُوَ الَّذِي يُوقَدُ فِيهِ الْعُودُ حَوَالَيْ السَّرِيرِ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، أَمَّا التَّجْمِيرُ فَلِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْإِيتَارُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» (وَيَغْلِي الْمَاءَ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرِضِ) مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَاءُ الْقَرَاحُ) لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ (وَيُغْسَلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ) لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ (وَيُغْلَى الْمَاءُ) مِنْ الْإِغْلَاءِ لَا مِنْ الْغَلْيِ، لِأَنَّ الْغَلْيَ وَالْغَلَيَانَ لَازِمٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَفْضَلُ حَذَرًا عَنْ زِيَادَةِ الِاسْتِرْخَاءِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَنَجُّسِ الْكَفَنِ.
وَقُلْنَا: غَسْلُ الْمَيِّتِ شُرِعَ لِلتَّنْظِيفِ وَالْمَاءُ الْحَارُّ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ، وَزِيَادَةُ الِاسْتِرْخَاءِ قَدْ تُعِينُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ التَّنْظِيفُ لِأَنَّهُ يُخْرَجُ جَمِيعَ مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْخُرُوجِ فَلَا يَتَنَجَّسُ الْكَفَنُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْغُسْلِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ فَإِنْ فَلَمْ يُوجَدْ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ وَهُوَ الْأُشْنَانُ (يُغَسَّلُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ) أَيْ الْخَالِصِ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ فَالتَّرْتِيبُ مَا ذُكِرَ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَالْمُحِيطِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ حَتَّى يَبْتَلَّ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ الدَّرَنِ وَالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ بِمَاءِ السِّدْرِ أَوْ الْحَرَضِ لِيَزُولَ مَا عَلَى الْبَدَنِ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ، ثُمَّ بِمَاءِ الْكَافُورِ إنْ وُجِدَ تَطْيِيبًا لِبَدَنِ الْمَيِّتِ، كَذَا فَعَلَتْ الْمَلَائِكَةُ بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ غَسَّلُوهُ وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ لَهُ لِأَنَّهُ مِثْلُ الصَّابُونِ فِي التَّنْظِيفِ. (ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُرَى أَنَّ الْمَاءَ قَدْ وَصَلَ إلَى مَا يَلِي التَّخْتَ مِنْهُ)؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ هُوَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ مَسْحًا رَقِيقًا) تَحَرُّزًا عَنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرَ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْبُدَاءَةُ بِالْمَيَامِنِ) رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنِّسَاءِ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا» (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَيَمْسَحُ.
بَطْنَهُ.
مَسْحًا رَقِيقًا) يَعْنِي بِلَا عُنْفٍ حَتَّى إنْ بَقِيَ عِنْدَ الْمَخْرَجِ شَيْءٌ يَسِيلُ تَحَرُّزًا مِنْ تَلْوِيثِ الْكَفَنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بَطْنَهُ بِيَدِهِ رَقِيقًا طَلَبَ مِنْهُ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَقَالَ: طِبْت حَيًّا وَمَيِّتًا» (فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ وَلَا وُضُوءَهُ)؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً (ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِثَوْبٍ) كَيْ لَا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ (وَيَجْعَلُهُ) أَيْ الْمَيِّتَ (فِي أَكْفَانِهِ وَيَجْعَلُ الْحَنُوطَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَالْكَافُورَ عَلَى مَسَاجِدِهِ)؛ لِأَنَّ التَّطَيُّبَ سُنَّةٌ وَالْمَسَاجِدُ أَوْلَى بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ) قِيلَ بَعْدَ أَنْ يَمْسَحَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَبْلَ الْمَسْحِ رُبَّمَا يُعَدِّيهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ) رُوِيَ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَفَتْحِهَا (وَلَا وُضُوءَهُ لِأَنَّ الْغُسْلَ قَدْ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ) وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْغُسْلَ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَقَدْ حَصَلَ مَرَّةً وَسَقَطَ الْوَاجِبُ فَلَا يُعِيدُهُ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ فَلِأَنَّ الْخَارِجَ إنْ كَانَ حَدَثًا فَالْمَوْتُ أَيْضًا حَدَثٌ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَكَذَا هَذَا الْحَدَثُ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ مَسْحِ الْبَطْنِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْغُسْلِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ: يُقْعِدُهُ أَوَّلًا وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ ثُمَّ يَغْسِلُهُ، لِأَنَّ الْمَسْحَ قَبْلَ الْغُسْلِ أَوْلَى حَتَّى يُخْرِجَ مَا فِي بَطْنِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَقَعُ الْغُسْلُ ثَلَاثًا بَعْدَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ.
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ النَّجَاسَةَ قَدْ تَكُونُ مُنْعَقِدَةً لَا تَخْرُجُ إلَّا بَعْدَ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ بِمَاءٍ حَارٍّ، فَكَانَ الْمَسْحُ بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ أَقْدَرَ عَلَى إخْرَاجِ مَا بِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّثْلِيثَ فِي غُسْلِهِ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: «اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا» وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ: يُغَسَّلُ أَوَّلًا وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُغَسَّلُ وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ لِيَحْصُلَ الْغُسْلُ ثَلَاثًا.
وَقَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ: تَرَكَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَ الثَّالِثِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ ثُمَّ يُفِيضُونَ الْمَاءَ عَلَيْهِ.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ، وَغَسْلُ الرَّأْسِ بَعْدَ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْغُسْلَ إجْمَالًا وَمَا بَعْدَهُ تَفْصِيلُهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْغُسْلِ مَرَّتَيْنِ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ، وَالتَّثْلِيثُ فِي الصَّبِّ سُنَّةٌ عِنْدَ كُلِّ إضْجَاعٍ وَهَذَا أَنْسَبُ.
قِيلَ النِّيَّةُ لابد مِنْهَا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَوْ أُخْرِجَ الْغَرِيقُ وَجَبَ غُسْلُهُ إلَّا إذَا حُرِّكَ عِنْدَ الْإِخْرَاجِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالْغُسْلِ تَوَجَّهَ عَلَى بَنِي آدَمَ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ التَّحْرِيكِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ مُزِيلٌ بِطَبْعِهِ، فَكَمَا لَا تَجِبُ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْحَيِّ فَكَذَا لَا تَجِبُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: مَيِّتٌ غَسَّلَهُ أَهْلُهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ يُنَشِّفُهُ) ظَاهِرٌ، وَالْحَنُوطُ عِطْرٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَشْيَاءَ طَيِّبَةٍ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَسَاجِدِ الْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ لِأَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَخُصَّ بِزِيَادَةِ الْكَرَامَةِ (وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ وَلَا لِحْيَتُهُ وَلَا يُقَصُّ ظُفُرُهُ وَلَا شَعْرُهُ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا، وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ تَحْتَهُ وَصَارَ كَالْخِتَانِ.
الشَّرْحُ:
(قَوْلُهُ وَلَا يُسَرَّحُ شَعْرُ الْمَيِّتِ) تَسْرِيحُ الشَّعْرِ تَخْلِيصُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ، وَقِيلَ تَخْلِيلُهُ بِالْمُشْطِ، وَقِيلَ مَشْطُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُقَصُّ ظُفْرُهُ) رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الظُّفُرَ إذَا كَانَ مُنْكَسِرًا فَلَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ.
وَقَوْلُهُ (عَلَامَ) أَصْلُهُ (عَلَى مَا) دَخَلَ حَرْفُ الْجَرِّ عَلَى مَا الِاسْتِفْهَامِيَّة فَأَسْقَطَ أَلِفَهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} وَيُقَالُ نَصَوْت الرَّجُلَ نَصْوًا أَخَذْت نَاصِيَتَهُ وَمَدَدْتهَا.
رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ تَسْرِيحِ شَعْرِ الْمَيِّتِ فَقَالَتْ: عَلَامَ تَنُصُّونَ مَيِّتَكُمْ؟ كَأَنَّهَا كَرِهَتْ تَسْرِيحَ رَأْسِ الْمَيِّتِ فَجَعَلَتْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالنَّاصِيَةِ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.
قَالَ: وَفِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ فِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا جَوَابُ إشْكَالٍ: أَيْ لَا يُشْكِلُ عَلَيْنَا الْحَيُّ حَيْثُ يُسَرَّحُ شَعْرُهُ وَيُقَصُّ ظُفُرُهُ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الزِّينَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ زَوَالُ الْجُزْءِ، بِخِلَافِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ إزَالَةُ الْجُزْءِ كَمَا فِي الْخِتَانِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ فِيهِ.
بِأَنْ يُخْتَنَ الْحَيُّ وَلَا يُخْتَنَ الْمَيِّتُ بِالِاتِّفَاقِ، فَكَذَا فِي كُلِّ زِينَةٍ تَتَضَمَّنُ إبَانَةَ الْجُزْءِ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَجِدْ لَهُ رَبْطًا بِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَصْلًا وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلَهُ (وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِلزِّينَةِ) أَيْ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ (وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمَيِّتُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الزِّينَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِزِينَةِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهَا تُفْعَلُ بِالْحَيِّ أَيْضًا.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَفِي الْحَيِّ كَانَ تَنْظِيفًا) يَعْنِي مَا كَانَتْ تُعْمَلُ بِالْحَيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا زِينَةٌ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَنْظِيفٌ (لِاجْتِمَاعِ الْوَسَخِ تَحْتَهُ) وَذِكْرُ الضَّمِيرِ فِي تَحْتِهِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: هَبْ أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَيِّ تَنْظِيفًا لَكِنَّ الْمَيِّتَ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى التَّنْظِيفِ وَلِهَذَا قَالَ وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحَرَضِ مُبَالَغَةً فِي التَّنْظِيفِ وَيُغَسَّلُ رَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ لِيَكُونَ أَنْظَفَ فَلْيُعْمَلْ بِهِ مِنْ حَيْثُ التَّنْظِيفُ.
يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ تَنْظِيفٌ بِإِبَانَةِ جُزْءٍ وَذَلِكَ فِي الْمَيِّتِ غَيْرُ مَسْنُونٍ كَمَا فِي الْخِتَانِ، هَذَا مَا سَنَحَ لِي فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ.

.فَصْلٌ فِي تَكْفِينِهِ:

(السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ الرَّجُلُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إزَارٍ وَقَمِيصٍ وَلِفَافَةٍ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ» وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ (فَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ جَازَ، وَالثَّوْبَانِ إزَارٌ وَلِفَافَةٌ) وَهَذَا كَفَنُ الْكِفَايَةِ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفِّنُونِي فِيهِمَا، وَلِأَنَّهُ أَدْنَى لِبَاسِ الْأَحْيَاءِ، وَالْإِزَارُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ، وَاللِّفَافَةُ كَذَلِكَ، وَالْقَمِيصُ مِنْ أَصْلِ الْعُنُقِ إلَى الْقَدَمِ.
الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي التَّكْفِينِ.
رَتَّبَ هَذِهِ الْفُصُولَ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَا فِيهَا مِنْ الْأَفْعَالِ.
تَكْفِينُ الْمَيِّتِ: لَفُّهُ بِالْكَفَنِ، وَهُوَ وَاجِبٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدَّيْنِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَكَفَنُهُ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ كَمَا تَلْزَمُهُ كِسْوَتُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ (السُّنَّةُ أَنْ يُكَفَّنَ) يَعْنِي تَكْفِينُهُ (فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ) سُنَّةٌ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ أَصْلِ التَّكْفِينِ وَاجِبًا؛ ثُمَّ التَّكْفِينُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كُفِّنَ بِمَا وُجِدَ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ صَاحِبَ رَايَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ نَمِرَةً وَهِيَ كِسَاءٌ فِيهِ خُطُوطٌ بِيضٌ وَسُودٌ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَمَرَ بِأَنْ يُكَفَّنَ فِيهَا» وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ: كَفَنُ سُنَّةٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ثَلَاثَةُ (أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَقَمِيصٌ، وَلِفَافَةٌ) لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ.
وَالسَّحُولِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى سُحُولٍ بِفَتْحِ السِّينِ.
وَعَنْ الْأَزْهَرِيِّ بِالضَّمِّ: وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ.
وَفِي حَقِّ النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَثْوَابٍ: إزَارٌ، وَدِرْعٌ، وَخِمَارٌ وَلِفَافَةٌ، وَخِرْقَةٌ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا.
وَكَفَنُ كِفَايَةٍ.
وَهُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ثَوْبَانِ: إزَارٌ، وَلِفَافَةٌ.
وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ: قَمِيصٌ، وَإِزَارٌ، وَخِمَارٌ.
وَمَا فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ. (فَإِذَا أَرَادُوا لَفَّ الْكَفَنِ ابْتَدَءُوا بِجَانِبِهِ الْأَيْسَرِ فَلَفُّوهُ عَلَيْهِ ثُمَّ بِالْأَيْمَنِ) كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَبَسْطُهُ أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ أَوَّلًا ثُمَّ يُبْسَطَ عَلَيْهَا الْإِزَارُ ثُمَّ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ وَيُوضَعَ عَلَى الْإِزَارِ ثُمَّ يُعْطَفَ الْإِزَارُ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، ثُمَّ اللِّفَافَةُ كَذَلِكَ (وَإِنْ خَافُوا أَنْ يَنْتَشِرَ الْكَفَنُ عَنْهُ عَقَدُوهُ بِخِرْقَةٍ) صِيَانَةً عَنْ الْكَشْفِ. (وَتُكَفَّنُ الْمَرْأَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ دِرْعٍ وَإِزَارٍ وَخِمَارٍ وَلِفَافَةٍ وَخِرْقَةٍ تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا) لِحَدِيثِ أُمِّ عَطِيَّةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى اللَّوَاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ خَمْسَةَ أَثْوَابٍ» وَلِأَنَّهَا تَخْرُجُ فِيهَا حَالَةَ الْحَيَاةِ فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ. (ثُمَّ هَذَا بَيَانُ كَفَنِ السُّنَّةِ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ جَازَ) وَهِيَ ثَوْبَانِ وَخِمَارٌ (وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ، وَيُكْرَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ.
وَفِي الرَّجُلِ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ إلَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ) لِأَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اُسْتُشْهِدَ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَهَذَا كَفَنُ الضَّرُورَةِ (وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الدِّرْعَ أَوَّلًا ثُمَّ يُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الدِّرْعِ، ثُمَّ الْخِمَارُ فَوْقَ ذَلِكَ تَحْتَ الْإِزَارِ، ثُمَّ الْإِزَارُ ثُمَّ اللِّفَافَةُ.
قَالَ: وَتُجْمَرُ الْأَكْفَانُ قَبْلَ أَنْ يُدْرَجَ فِيهَا وِتْرًا) «لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِإِجْمَارِ أَكْفَانِ ابْنَتِهِ وِتْرًا»، وَالْإِجْمَارُ هُوَ التَّطْيِيبُ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ صَلَّوْا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ.

.فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ:

الشَّرْحُ:
فَصْلٌ: فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ.
الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، أَمَّا فَرْضِيَّتُهُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَعَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ، وَأَمَّا أَنَّهَا عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ اسْتِحَالَةً أَوْ حَرَجًا فَاكْتُفِيَ بِالْبَعْضِ كَمَا فِي الْجِهَادِ. (وَأَوْلَى النَّاسِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ السُّلْطَانُ إنْ حَضَرَ) لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءٌ بِهِ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي) لِأَنَّهُ صَاحِبُ وِلَايَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَيُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ إمَامِ الْحَيِّ) لِأَنَّهُ رَضِيَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ.
قَالَ (ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ)،.
الشَّرْحُ:
رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ أَوْلَى إنْ حَضَرَ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ أَوْلَى إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْقَاضِي أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَصَاحِبُ الشُّرْطَةِ أَوْلَى.
فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْحَيِّ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ.
وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَخَذَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا.
وَقَوْلُهُ (فِي الْكِتَابِ السُّلْطَانِ يَجُوزُ) أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إنْ حَضَرَ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ فَإِمَامُ الْمِصْرِ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ الْوَلِيُّ) إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَالْوَلِيُّ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} وَلَهُمَا أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا مَاتَ خَرَجَ الْحُسَيْنُ وَالنَّاسُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَقَدَّمَ الْحُسَيْنُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ سَعِيدٌ يَوْمَئِذٍ وَالِيًا بِالْمَدِينَةِ فَأَبَى أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ: تَقَدَّمْ، وَلَوْلَا السُّنَّةُ مَا قَدَّمْتُك.
وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ وَعَلَى وِلَايَةِ الْمُنَاكَحَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ) يَقْتَضِي أَنْ يَتَقَدَّمَ الِابْنُ عَلَى الْأَبِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى، فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَالِابْنُ أَوْلَى، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا إلَّا أَنَّهُ يُقَدَّمُ الْأَبُ احْتِرَامًا لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا بَلْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنَّ الْأَبَ أَوْلَى قَوْلُ الْكُلِّ لِأَنَّ لِلْأَبِ زِيَادَةَ فَضِيلَةٍ وَسِنٍّ لَيْسَتْ لِلِابْنِ، وَلِلْفَضِيلَةِ أَثَرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْإِمَامَةِ فَيُرَجَّحُ الْأَبُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ.
قَوْلُهُ (وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِي النِّكَاحِ) مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالِابْنِ فَبَنُو الْأَعْيَانِ يَحْجُبُونَ بَنِي الْعِلَّاتِ وَالْأَكْبَرُ سِنًّا يَحْجُبُ الْأَصْغَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ الْأَسَنِّ» فَإِنْ أَرَادَ الْأَكْبَرُ مِنْ الْأَعْيَانِ أَنْ يُقَدِّمَ إنْسَانًا آخَرَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بَنُو الْأَعْيَانِ تَقْدِيمَ إنْسَانٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي الْعِلَّاتِ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ مَعَ وُجُودِهِمْ، وَابْنُ عَمِّ الْمَرْأَةِ أَحَقُّ مِنْ زَوْجِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهَا ابْنٌ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِمَوْتِهَا وَالْتِحَاقِهِ بِالْأَجَانِبِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، ثُمَّ الِابْنُ يُقَدِّمُ أَبَاهُ احْتِرَامًا لَهُ فَيَثْبُتُ لِلزَّوْجِ حَقُّ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ أَوْلَى مِنْ الزَّوْجِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزَّوْجُ أَوْلَى لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى عَلَى امْرَأَتِهِ وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِهَا.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَر- أَنَّهُ لَمَّا مَاتَتْ امْرَأَتُهُ قَالَ لِأَوْلِيَائِهَا: كُنَّا أَحَقَّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً، فَإِذَا مَاتَتْ فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهَا.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ إمَامَ حَيٍّ (فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ) يَعْنِي إنْ شَاءَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ (وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ) لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِالْأَوْلَى وَالتَّنَفُّلَ بِهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلِهَذَا رَأَيْنَا النَّاسَ تَرَكُوا عَنْ آخِرِهِمْ الصَّلَاةَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ.
الشَّرْحُ:
(فَإِنْ صَلَّى غَيْرُ الْوَلِيِّ أَوْ السُّلْطَانِ أَعَادَ الْوَلِيُّ) وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِذِكْرِ السُّلْطَانِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ فَلَا إعَادَةَ لِأَحَدٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْوَلِيِّ، ثُمَّ هُوَ لَيْسَ بِمُنْحَصِرٍ عَلَى السُّلْطَانِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَلِيِّ فِي تَرْتِيبِ الْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصَلَّى هُوَ لَا يُعِيدُ الْوَلِيُّ ثَانِيًا قَالَ الْإِمَامُ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوَاهُ: رَجُلٌ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ وَالْوَلِيُّ خَلْفَهُ وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، إنْ تَابَعَهُ وَصَلَّى مَعَهُ لَا يُعِيدُ لِأَنَّهُ صَلَّى مَرَّةً، وَإِنْ لَمْ يُتَابِعْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي السُّلْطَانَ أَوْ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ فِي الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَاضِيَ أَوْ الْوَالِيَ.
عَلَى الْبَلْدَةِ.
أَوْ إمَامَ حَيٍّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيدَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْأَوْلَوْنَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ.
فَلَهُ الْإِعَادَةُ.
وَكَذَا ذَكَرَ فِي التَّجْنِيسِ وَالْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ إعَادَةَ الْوَلِيِّ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا وَلَمْ يَذْكُرْ إعَادَةَ السُّلْطَانِ إذَا لَمْ يُصَلِّهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ فِي وِلَايَةِ الْإِعَادَةِ كَحُكْمِ الْوَلِيِّ لِمَا أَنَّهُ مُقَدَّمٌ فِي حَقِّ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى الْوَلِيِّ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْإِعَادَةِ لِلْأَدْوَنِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ لِلْأَعْلَى مِنْهُ أَوْلَى، وَقَالَ: قَدْ وَجَدْت رِوَايَةً فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ تَشْهَدُ بِمَا ذُكِرَ، وَقَالَ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ تَخْصِيصُ الْوَلِيِّ لَيْسَ بِقَيْدٍ لِمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى.
مِنْ الْوَلِيِّ.
فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ الْوَلْوَالِجِيِّ وَالتَّجْنِيسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ مَذْهَبُنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُعَادُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَبْرٍ جَدِيدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ قَبْرُ فُلَانَةَ، فَقَالَ: هَلَّا آذَنْتُمُونِي بِالصَّلَاةِ؟ فَقِيلَ إنَّهَا دُفِنَتْ لَيْلًا فَخَشِينَا عَلَيْك هَوَامَّ الْأَرْضِ فَقَامَ وَصَلَّى عَلَى قَبْرِهَا», «وَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ».
وَلَنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَقَوْلُهُ (وَهُوَ الْيَوْمَ كَمَا وُضِعَ) لِأَنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَامٌ عَلَى الْأَرْضِ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ وَإِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ، وَهَكَذَا تَأْوِيلُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مَشْغُولًا بِتَسْوِيَةِ الْأُمُورِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ، وَكَانَ الْحَقُّ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَهُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ. (وَإِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ صُلِّيَ عَلَى قَبْرِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَبْرِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ (وَيُصَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَسَّخَ) وَالْمُعْتَبَرُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ هُوَ الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (صَلَّى عَلَى قَبْرِهِ) يَعْنِي إذَا وُضِعَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ وَأُهِيلَ التُّرَابُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُوضَعْ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ أَوْ وُضِعَ وَلَكِنْ لَمْ يُهَلْ التُّرَابُ عَلَيْهِ يُخْرَجُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّسْنِيمَ لَمْ يَتِمَّ بَعْدُ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي عَدَمِ التَّفَسُّخِ.
وَقَوْلُهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَبَعْدَهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ، لِأَنَّ تَفَرُّقَ الْأَجْزَاءِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَيِّتِ مِنْ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ، وَبِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَبِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ مِنْ الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ، وَاَلَّذِي رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ» مَعْنَاهُ دَعَا لَهُمْ وَهُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ.
وَقِيلَ: إنَّهُمْ كَانُوا كَمَا دُفِنُوا لَمْ تَتَفَرَّقْ أَعْضَاؤُهُمْ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرُ الرَّأْيِ هُوَ الْمُعْتَبَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِمْ أَنَّ أَجْزَاءَ الْمَيِّتِ تَفَرَّقَتْ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُصَلُّونَ عَلَيْهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَنَّهَا لَمْ تَتَفَرَّقْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. (وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِيبَهَا، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا.
الشَّرْحُ:
قَالَ (وَالصَّلَاةُ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرَةً) الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ (يَحْمَدُ اللَّهَ عَقِبَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى) وَلَمْ يُعَيِّنْ نَوْعًا مِنْ الثَّنَاءِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهَا: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ إلَخْ كَمَا مَرَّ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْمَدُ اللَّهَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك إلَخْ كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ.
وَأَرَى أَنَّهُ مُخْتَارُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ، فَإِنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ الثَّنَاءِ ذَلِكَ وَلَا يَرْفَعُ يَدَهُ فِي التَّكْبِيرَاتِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ (ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَانِيَةً يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ يَعْقُبُهُ الصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ وَعَلَى ذَلِكَ وُضِعَتْ الْخُطَبُ (ثُمَّ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً ثَالِثَةً يَدْعُو فِيهَا لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُسْلِمِينَ) يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا إنْ كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَيَأْتِي بِأَيِّ دُعَاءٍ شَاءَ لِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقُبُهُمَا الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَدْعُوَ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ثُمَّ يَدْعُو» (ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا» فَنَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا) فَكَانَ مَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوْ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَذَلِكَ بِالسَّلَامِ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا دُعَاءٌ إلَّا السَّلَامُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنْ يُقَالَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا بِرَحْمَتِك عَذَابَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ وَبَعْضُهُمْ أَنْ يَقُولَ: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتنَا} الْآيَةَ. (وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُؤْتَمُّ) خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ لِمَا رَوَيْنَا، وَيَنْتَظِرُ تَسْلِيمَةَ الْإِمَامِ فِي رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ خَمْسًا لَمْ يُتَابِعْهُ الْمُقْتَدِي) فِي الْخَامِسَةِ لِكَوْنِهَا مَنْسُوخَةً بِمَا رَوَيْنَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَرْبَعًا فِي آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا».
وَقَالَ زُفَرُ: يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ خَمْسًا فَتَابَعَهُ الْمُقْتَدِي كَمَا فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ.
قُلْنَا: ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَشَاوَرُوا وَرَجَعُوا إلَى آخِرِ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فَصَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِإِجْمَاعِهِمْ، وَمُتَابَعَةُ الْمَنْسُوخِ خَطَأٌ، وَإِذَا لَمْ يُتَابِعْهُ مَاذَا يَصْنَعُ؟ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُسَلِّمُ لِلْحَالِ تَحْقِيقًا لِلْمُخَالَفَةِ، وَفِي أُخْرَى: يَنْتَظِرُ تَسْلِيمَ الْإِمَامِ لِيَصِيرَ مُتَابَعًا فِيمَا تَجِبُ الْمُتَابَعَةُ فِيهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهُوَ الْمُخْتَارُ). وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ اسْتِغْفَارٌ لِلْمَيِّتِ وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ ثُمَّ بِالصَّلَاةِ سُنَّةِ الدُّعَاءِ، وَلَا يَسْتَغْفِرُ لِلصَّبِيِّ وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرْطًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا أَجْرًا وَذُخْرًا، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَالْإِتْيَانُ بِالدَّعَوَاتِ) يَعْنِي بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّالِثَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الدُّعَاءُ (وَالْبُدَاءَةُ بِالثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةُ الدُّعَاءِ) تَحْصِيلًا لِلْإِجَابَةِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا فَعَلَ هَكَذَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُدْعُ فَقَدْ اُسْتُجِيبَ لَك» (وَ) عَلَى هَذَا (لَا يُسْتَغْفَرُ لِلصَّبِيِّ) لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ (وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا) أَيْ أَجْرًا يَتَقَدَّمُنَا، وَأَصْلُ الْفَرَطِ فِيمَنْ يَتَقَدَّمُ الْوَارِدَةَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ (وَاجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا) أَيْ خَيْرًا بَاقِيًا (وَاجْعَلْهُ لَنَا شَافِعًا مُشَفَّعًا) أَيْ مَقْبُولَ الشَّفَاعَةِ. (وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ لَا يُكَبِّرُ الْآتِي حَتَّى يُكَبِّرَ أُخْرَى بَعْدَ حُضُورِهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكَبِّرُ حِينَ يَحْضُرُ لِأَنَّ الْأُولَى لِلِافْتِتَاحِ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِهِ.
وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ قَائِمَةٌ مَقَامَ رَكْعَةٍ، وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ إذْ هُوَ مَنْسُوخٌ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَلَمْ يُكَبِّرْ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَبَّرَ الْإِمَامُ تَكْبِيرَةً أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ) ظَاهِرٌ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْحَاضِرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَالْمَسْبُوقِ، وَالْمَسْبُوقُ يَأْتِي بِتَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ إذَا انْتَهَى إلَى الْإِمَامِ فَكَذَا هَذَا، وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَ كَالْمَسْبُوقِ لَكِنْ لِكُلِّ تَكْبِيرَةٍ بِمَنْزِلَةِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِهَذَا قِيلَ أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الظُّهْرِ (وَالْمَسْبُوقُ لَا يَبْتَدِئُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ) فَيَنْتَظِرُ حَتَّى يُكَبِّرَ الْإِمَامُ فَيُكَبِّرُ مَعَهُ فَتَكُونُ هَذِهِ التَّكْبِيرَةُ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ فَيَصِيرُ مَسْبُوقًا بِمَا فَاتَهُ مِنْ تَكْبِيرَةٍ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ يَأْتِي.
بِهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ (إذْ هُوَ) أَيْ الِابْتِدَاءُ بِمَا فَاتَهُ قَبْلَ أَدَاءِ مَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ (مَنْسُوخٌ) وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا) أَيْ الَّذِي فَاتَتْهُ التَّكْبِيرَةُ (لَا يَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُدْرِكِ) لِتِلْكَ التَّكْبِيرَةِ ضَرُورَةَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُقَارَنَةِ.
وَشَرْطُ قَضَاءِ التَّكْبِيرِ الْفَائِتِ أَنْ لَا تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجُوزُ بَعْدَ رَفْعِهَا.
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ يُكَبِّرُ الْمَسْبُوقُ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ لِأَنَّهُ صَارَ مَسْبُوقًا بِهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَسْبُوقًا بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ كَبَّرَ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَ مَسْبُوقًا بِأَرْبَعِ تَكْبِيرَاتٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلصَّلَاةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَوْ كَبَّرَ صَارَ مُشْتَغِلًا بِقَضَاءِ مَا سَبَقَ بِهِ قَبْلَ فَرَاغِ الْإِمَامِ، وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَاتَتْهُ الْجِنَازَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُكَبِّرُ وَيَشْرَعُ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ ثُمَّ يَأْتِي بِالتَّكْبِيرَاتِ بَعْدَمَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ تُرْفَعَ الْجِنَازَةُ. قَالَ (وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ) لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَفِيهِ نُورُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ الْقِيَامُ عِنْدَهُ إشَارَةً إلَى الشَّفَاعَةِ لِإِيمَانِهِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُومُ مِنْ الرَّجُلِ بِحِذَاءِ رَأْسِهِ وَمِنْ الْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ وَسَطِهَا لِأَنَّ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَ كَذَلِكَ وَقَالَ: هُوَ السُّنَّةُ.
قُلْنَا تَأْوِيلُهُ أَنَّ جِنَازَتَهَا لَمْ تَكُنْ مَنْعُوشَةً فَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ.
الشَّرْحُ:
قَالَ: (وَيَقُومُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِحِذَاءِ الصَّدْرِ) كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَالْوَسْطُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: بِسُكُونِ السِّينِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ الشَّيْءِ وَلِذَا كَانَ ظَرْفًا، يُقَالُ: جَلَسْت وَسْطَ الدَّارِ بِالسُّكُونِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِخِلَافِ الْمُتَحَرِّكِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لَعَيْنِ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الشَّيْءِ وَلَيْسَ بِمُرَادٍ، وَالنَّعْشُ شَبَهُ الْمِحَفَّةِ مُشْتَبِكٌ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا وُضِعَتْ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالرُّكْبَانُ جَمْعُ رَاكِبٍ. (فَإِنْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ رُكْبَانًا أَجْزَأَهُمْ) فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تُجْزِئُهُمْ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيمَةِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ احْتِيَاطًا.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا دُعَاءٌ) يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا قِرَاءَةٌ وَلَا رُكُوعٌ وَلَا سُجُودٌ فَيَسْقُطُ الْقِيَامُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ (وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِمْ) يَعْنِي تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِعَادَةُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ. (وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ) لِأَنَّ التَّقَدُّمَ حَقُّ الْوَلِيِّ فَيَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا بَأْسَ بِالْأَذَانِ: أَيْ الْإِعْلَامِ، وَهُوَ أَنْ يُعْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَقْضُوا حَقَّهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ) أَيْ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِغَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ إذَا حَسُنَ ظَنُّهُ بِشَخْصٍ أَنَّ فِي تَقْدِيمِهِ مَزِيدَ خَيْرٍ وَثَوَابٍ، وَشَفَاعَتَهُ أَرْجَى لَهُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ حَقُّهُ فَجَازَ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا بَأْسَ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ لِلنَّاسِ بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذْ لَا يَسَعُهُمْ الِانْصِرَافُ عَنْهَا قَبْلَ الدَّفْنِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ.
وَقَوْلُهُ (وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ) أَيْ نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (بِالْأَذَانِ) أَيْ إعْلَامِ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَآذِنُونِي بِالصَّلَاةِ» أَيْ أَعْلِمُونِي، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ النِّدَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ لِلْجِنَازَةِ الَّتِي يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا كَالزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ. (وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ، وَفِيمَا إذَا كَانَ الْمَيِّتُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ) إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ فِي الْمَسْجِدِ، فَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا مَكْرُوهَةٌ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَالْإِمَامُ وَبَعْضُ الْقَوْمِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ وَالْبَاقِي فِيهِ لَمْ تُكْرَهْ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ وَحْدَهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُكْرَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ بِإِدْخَالِ جِنَازَتِهِ الْمَسْجِدَ حَتَّى صَلَّتْ عَلَيْهَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَتْ لِبَعْضِ مَنْ حَوْلَهَا: هَلْ عَابَ النَّاسُ عَلَيْنَا مَا فَعَلْنَا؟ قَالَ نَعَمْ، فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا، «مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا أَجْرَ لَهُ» وَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّ النَّاسَ فِي زَمَانِهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ قَدْ عَابُوا عَلَيْهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ ذَلِكَ كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَتَأْوِيلُ صَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جِنَازَةِ سُهَيْلٍ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ فَأَمَرَ بِالْجِنَازَةِ فَوُضِعَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ.
وَعِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْجِدِ لِمَا نَذْكُرُهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ بُنِيَ لِأَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ) دَلِيلَانِ مَعْقُولَانِ عَلَى ذَلِكَ وَقَعَ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْجِنَازَةُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ نَظَرًا إلَيْهِمَا؛ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْأَوَّلِ قَالَ بِالْكَرَاهَةِ وَإِنْ كَانَتْ خَارِجَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ التَّنَفُّلُ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَكْتُوبَةِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الثَّانِي حَكَمَ بِعَدَمِهَا لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ التَّلْوِيثُ لَمْ تُوجَدْ.
فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُطْلَقٌ فَالتَّعْلِيلُ بِالتَّلْوِيثِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ وَهُوَ بَاطِلٌ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْمَسْجِدِ» يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلصَّلَاةِ فَكَانَ دَلِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْجِنَازَةِ فَلَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِتَعْلِيلِ الْآخَرِينَ. (وَمَنْ اسْتَهَلَّ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ دَلَالَةُ الْحَيَاةِ فَتَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ سُنَّةُ الْمَوْتَى (وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ) كَرَامَةً لِبَنِي آدَمَ (وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَيُغَسَّلُ فِي غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اسْتَهَلَّ) عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ: أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالْبُكَاءِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ: هُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ بُكَاءٍ أَوْ تَحْرِيكِ عُضْوٍ أَوْ طَرْفِ عَيْنٍ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ) دَلِيلُ غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَيُعْطَى حَظًّا مِنْ الشَّبَهَيْنِ، فَلِاعْتِبَارِهِ بِالنُّفُوسِ يُغَسَّلُ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالْأَجْزَاءِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. (وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمَا (إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ) لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا (أَوْ يُسْلِمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ) لِأَنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا (وَإِنْ لَمْ يُسْبَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ صُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِالْإِسْلَامِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا سُبِيَ صَبِيٌّ) يَعْنِي إذَا سُبِيَ صَبِيٌّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ (مَعَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ) أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ (فَمَاتَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ كَافِرٌ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا» فَإِنَّ فِيهِ دَلَالَةً ظَاهِرَةً عَلَى مُتَابَعَةِ الْوَلَدِ لِلْأَبَوَيْنِ (إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ) صِفَةُ الْإِسْلَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي «حَدِيثِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنْ اللَّهِ» وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَعْقِلُ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُدًى وَاتِّبَاعَهُ خَيْرٌ، وَالْكُفْرَ ضَلَالَةٌ وَاتِّبَاعَهُ شَرٌّ (لِأَنَّهُ صَحَّ إسْلَامُهُ اسْتِحْسَانًا) وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ.
وَقَوْلُهُ (أَوْ يُسَلِّمُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ؛ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ وَهُوَ يَعْقِلُ أَوْ يُسْلِمُ (أَحَدُ أَبَوَيْهِ) صَحَّ إسْلَامُهُ لِمَا رَوَيْنَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ظَهَرَتْ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ كَمَا فِي اللَّقِيطِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَتْ الدَّارُ مِمَّا يُتْبَعُ فَلْيُتْبَعْ وَإِنْ سُبِيَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ كَالْأَبَوَيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا.
أُجِيبَ بِأَنَّ تَأْثِيرَ الدَّارِ فِي الِاسْتِتْبَاعِ دُونَ تَأْثِيرِ الْوِلَادَةِ، «لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِاسْتِتْبَاعِ الْأَبَوَيْنِ دُونَ الدَّارِ مَعَ قِيَامِ الدَّارِ»، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لِمَا حُكِمَ بِكُفْرِ صَبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا، وَكَانَ مَا تَرَكَ أَبَوَاهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ بَعْدَ تَبَعِيَّةِ الدَّارِ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ مِنْ الْغَنِيمَةِ صَبِيٌّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِصَاحِبِ الْيَدِ؛ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ قَدَّمَ تَبَعِيَّةَ الْيَدِ عَلَى تَبَعِيَّةِ الدَّارِ. (وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ) بِذَلِكَ أُمِرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ، لَكِنْ يُغَسَّلُ غُسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَتُحْفَرُ حُفَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ سُنَّةِ التَّكْفِينِ وَاللَّحْدِ، وَلَا يُوضَعُ فِيهَا بَلْ يُلْقَى.
الشَّرْحُ:
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ وَلَهُ وَلِيٌّ مُسْلِمٌ) أَيْ قَرِيبٌ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوِلَايَةِ مَنْفِيَّةٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} وَأُطْلِقَ لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ قَرِيبٍ لَهُ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ: كَافِرٌ مَاتَ وَلَهُ ابْنٌ مُسْلِمٌ يُغَسِّلُهُ وَيُكَفِّنُهُ وَيَدْفِنُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ الْكُفَّارِ مَنْ يَتَوَلَّى أَمْرَهُ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُخَلِّيَ الْمُسْلِمُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ يَصْنَعُونَ بِهِ مَا يَصْنَعُونَ بِمَوْتَاهُمْ (بِذَلِكَ أَمَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) رُوِيَ: «أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَمَّك الضَّالَّ وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْسِلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَكَفِّنْهُ وَلَا تُحْدِثْ بِهِ حَدَثًا حَتَّى تَلْقَانِي» أَيْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (لَكِنْ يُغَسَّلُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجَسِ) يَعْنِي لَا يُغَسَّلُ كَغُسْلِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالْوُضُوءِ وَبِالْمَيَامِنِ، وَلَكِنْ يُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ كَمَا يُصَبُّ فِي غُسْلِ النَّجَاسَةِ وَلَا يَكُونُ الْغُسْلُ طَهَارَةً لَهُ؛ حَتَّى لَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وَصَلَّى لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَهُ الْمُصَلِّي بَعْدَمَا غُسِّلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ (وَيُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ) يَعْنِي بِلَا اعْتِبَارِ عَدَدٍ وَلَا حَنُوطٍ وَلَا كَافُورٍ. (وَإِذَا حَمَلُوا الْمَيِّتَ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ) بِذَلِكَ وَرَدَتْ السُّنَّةُ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ وَزِيَادَةُ الْإِكْرَامِ وَالصِّيَانَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا رَجُلَانِ: يَضَعُهَا السَّابِقُ عَلَى أَصْلِ عُنُقِهِ، وَالثَّانِي عَلَى أَعْلَى صَدْرِهِ، لِأَنَّ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا حُمِلَتْ.
قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ لِازْدِحَامِ الْمَلَائِكَةِ.
الشَّرْحُ: